إن الاختلال في ميزان القوة للحد الذي يتعذر تجاوزه بين العرب والإسرائيليين، ناهيك عن الفلسطينيين والإسرائيليين، يفرض علينا إعادة التفكير بشكل جذري في نهج حل مشكلة فلسطين.
إسرائيل حقيقة واقعة مفروضة على الأرض يتوجب على المنطقة المحيطة تقبلها حتى وإن كان على مضض. فبينما لم يكن لها “الحق” أبدًا في تهجير ملايين الفلسطينيين واستعمار أرضهم، إلا أنها نجحت، بمساعدة الإمبريالية البريطانية ودعم الولايات المتحدة، في القيام بذلك بالضبط.
بما أن الألمان هم من قتلوا ستة ملايين يهودي في محرقة النازية “الهولوكوست”، فإن العدالة تقتضي بأن يُمنح اليهود أفضل الأراضي في ألمانيا لإقامة دولتهم بدلاً من أرض الشعب الفلسطيني الذي لم يؤذهم في شيء. غير أن العدالة لا تصنع التاريخ؛ إنما تصنعها القوة المفرطة – ويجب على الفلسطينيين أن يتصالحوا مع هذا الواقع المؤلم وأن يمضوا قدمًا في حياتهم دون أن تعوقهم الآمال والأوهام الزائفة.
لكن هذا صعب للغاية بالنسبة للفلسطينيين نظرا لتلقيهم دعمًا عاطفيًا وسياسيًا من الآخرين ربما أكثر من أي شعب مغتصب في العصر الحديث. لكن هذا الدعم لم يكن ذا نتائج جوهرية يمكن أن تساعد في إعادة الشعب الفلسطيني إلى دياره. ومع ذلك، ما زال هذا يخدعهم ويمنعهم من مواجهة الواقع المؤلم المتمثل في أن معظم أراضيهم وديارهم في فلسطين التاريخية قد فقدت بشكل دائم بسبب الاستعمار الاستيطاني اليهودي.
وبالمقارنة، اضطرت شعوب أخرى من اللاجئين الذين لم يتغذوا بأية أوهام من هذا القبيل إلى تقبل الواقع المؤلم ممثلًا في تشردهم الدائم. فتمكنوا في نهاية المطاف من المضي قدمًا في حياتهم لأنهم حصلوا على جنسية بلدان اخرى، وبالتالي بنوا حياة جديدة لأنفسهم ولأحفادهم.
لقد خدم وهم “العودة” مصالح بعض الأنظمة العربية بإعطائها ذريعة قوية لتجنب توطين اللاجئين الفلسطينيين، لا سيما في لبنان وحتى الأردن، حيث يوجد ملايين الفلسطينيين المحرومين من الجنسية في مخيماتهم. وكانت هذه الأنظمة تخشى أن يغير هؤلاء اللاجئون – حال اعتبارهم مواطنين – التركيبة السكانية لهذه البلدان وبالتالي، فإن العذر المقدم هو أنه نظرًا لأن الفلسطينيين سيعودون في نهاية المطاف إلى فلسطين، فإن منحهم الجنسية سيقوض من الناحية الفنية “حقهم في العودة” ومن ثم ينبغي حرمانهم من الجنسية. وقد تواطأ القادة الفلسطينيون بشكل فعال في إدامة هذه المأساة.
واليوم بات لا يمكن حل المشكلة الفلسطينية إلا بإعادة تعريفها. فلا ينبغي أن تكون القضية في هذا اليوم وهذا العصر تدور فقط حول استعادة ملكية أرض الأجداد بقدر ما هي الحاجة الماسة إلى امتلاك هوية قانونية ومواطنة تحظى بالاحترام عالميًا بما يسمح للفرد بممارسة حياته الطبيعية في العالم المعاصر. حيث إن العمل في عصرنا هذا لا تحده قيود جغرافية، ولذا الحصول على الجنسية في بلد ما مسألة أساسية لتنمية البشرية. والآلية الأكثر منطقية لتحقيق إعادة التعريف هذه وبالتالي حل مشكلة فلسطين هي توطين الفلسطينيين قانونياً في المملكة الأردنية.
وعلى مدار الخمسة وسبعين عامًا الماضية، تطور الأردن إلى دولة تدير شئونها بشكل جيدًا نسبيًا، رغم ما تسببت به الاضطرابات السياسية الإقليمية من فشله اقتصاديا وجعله يعتمد بشدة على المساعدات الخارجية للبقاء. وهذه البنية الأساسية الناجحة للحكم الأردني هي التي يجب استثمارها في الدمج بين ملايين الفلسطينيين والأردنيين في دولة واحدة تحت الحكم الهاشمي الحالي.
ويشمل المقترح بشأن هذه المملكة الموسعة، الأردن بحدوده الحالية وقطاع غزة والضفة الغربية (المناطق التي يسكنها الفلسطينيون وتتاخم الأردن، ما يعني ألا تكون منقسمة إلى جزر). ومن ثم ستصبح الذرائع الإسرائيلية حول الحاجة إلى الإبقاء على وادي الأردن ومناطق اخرى ضعيفة نظرًا لأن هذه الأراضي ستكون حينها تحت سيطرة حكومة أردنية لها مصداقية في الحفاظ على السلام مع إسرائيل. كما سينتهي وقتها الادعاء الإسرائيلي المعتاد بأن ليس لديها “شريك سلام”.
وعلى الرغم من حقيقة أنه لا العرب ولا المسلمين لديهم أمل في طرد إسرائيل من القدس، فإنه وبالنظر إلى رمزيته، ستظل ورقة مساومة رئيسية في أيدي الفلسطينيين. ويمكن أن يكون التنازل الرسمي عن القدس (مع إعطاء الأماكن المقدسة وضعية خاصة) نقطة امتياز هامة لصالح تأمين الشروط المذكورة سلفًا. فرغم كل شيء، يبقى الفلسطينيون هم الطرف الوحيد القادر على القيام بذلك، وبالتالي إضفاء الشرعية الكاملة على إسرائيل في أعين المنطقة والعالم.
ويمكن أن يصبح الفلسطينيون في الدول العربية مثل لبنان حينها من مواطني هذه المملكة الموسعة بينما يحصلون أيضًا على حقوق الإقامة ، ما يعادل ما يحظى به أي مواطن أوروبي في الاتحاد الأوروبي خارج موطنه الأصلي. ومن شأن هذا أن يسمح للفلسطينيين بالحصول على الحقوق المدنية كمقيمين أجانب شرعيين بدون التأثير على السياسة المحلية أو التوازن الطائفي في تلك البلدان. ويمكن لمجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا وغيرهم المساعدة في دعم هذا الحل بمنح حاملي جواز السفر الأردني الفلسطيني هذا دخولا أسهل لأسواق العمل الخاصة بهم.
ما الذي قد يؤدي بالفلسطينيين إلى دعم هذه الخطة؟ إن الجيل الأول الذي عاصر النكبة، قد مات، وكبر أحفادهم في ظل الاحتلال الإسرائيلي أو في مخيمات اللجوء دون حد أدنى من درجات التعليم وفرص التدريب والعمل، وسوف يدركون بمجرد توضيح هذه الفكرة لهم، أن كفاحهم لاستعادة أرض أجدادهم غير مجدٍ ولابد أن تصير المسألة الشاغلة لهم ولأطفالهم هي القدرة على أن يعيشوا حياة كريمة مثمرة بمجرد حصولهم على مواطنة تسمح لهم بفعل هذا وألا يعودوا عديمي الجنسية. واليوم، يمكن ملاحظة مثل هذا التفكير الجديد متمثلًا، على سبيل المثال، في حقيقة أن كثيرًا من الفلسطينيين المقدسيين يتقدمون بطلبات للحصول على جواز السفر الإسرائيلي وهو أمر كان يعتبره الرأي العام الفلسطيني خيانة وغير وارد في السنوات السابقة. وتظهر استطلاعات الرأي أيضًا أن نسبة كبيرة من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة إلى جانب أولئك الذين يعيشون في المخيمات، يريدون الهجرة لهذا السبب.
ويحتاج مثل هذا “الاتفاق” لأن يتم التصديق باستفتاء شعبي حر من قبل جميع المواطنيين الأردنيين والفلسطينيين الذين يتم تعريفهم هنا بسكان الضفة الغربية وقطاع غزة والمحرومين من الجنسية، (مثل سكان مخيمات لبنان وسوريا) فقط. أما من ليس له ناقة فيها ولا جمل شأن في تحديد المصير هنا، هم العرب أو المسلمين الآخرين أو حتى الفلسطينيين المستقرين في دول أخرى والذين يتمتعون بمواطنة كاملة.
وفي حين أن “المعترضين” سوف يلجأون على الأرجح إلى العنف، فإن كبح تلك الفئات سوف يكون ممكناً اذا صوتت الأكثرية من الشعب الفلسطيني لصالح هذا الحل. في النهاية القرار يجب أن يكون في يد المعنيين فقط أي الذين يدفعوا ثمن الوضع المأساوي الحالي أما إذا صوتوا بالرفض فإنهم يكونون قد أجمعوا على تحمل تبعات هذا القرار بمحض إرادتهم.
الأردنيون والفلسطينيون هم عرب سنة من المنطقة نفسها. ولن يتسبب دمجهم في أي خطوط صدع عرقية أو طائفية على المدى البعيد. وفي حين فد تنشب مقاومة (تتسم بقصر النظر) من بعض نخب “شرق الأردن” الذين سوف يرون هذا تهديدًا لهيمنتهم، فإن الولايات المتحدة وإسرائيل ودول مجلس التعاون لديهم تأثير كبير على تلك النخب بوصفهم الحماة الفعليين للدولة الأردنية، وبالتالي سوف يكون دور تلك الحكومات حاسمًا قطعًا في الضغط على هولاء الأردنيين للامتثال. فالأردن بدون تمويل خليجي و امريكي سينهار اقتصادياً.
يمكن أن يتم التحول إلى هذه المملكة الفلسطينية الأردنية الموسعة عن طريق توسيع المملكة الأردنية الحالية لسلطتها لتغطي الأراضي الفلسطينية والشتات باعتراف الدول المعنية المؤثرة وسحب الاعتراف بمنظمة التحرير كالممثل الشرعي للشعب الفلسطيني. وفي حين أنه سيكون هناك بكل تأكيد عثرات على طول الطريق، فإن الأمور سوف تستقر في النهاية مثلما استقرت بين شرق وغرب ألمانيا. وقتها ستتواجد دولة كبيرة ذات تعداد سكاني يتراوح ما بين 15 مليونًا إلى 20 مليونا نسمة، بسوق محلي كبير وحدود مفتوحة مع جيران الأردن بما في ذلك إسرائيل. وسيتيح كل هذا لكيان الدولة الجديدة فرصة حقيقية لأن تمتلك اقتصادًا قادرًا على الاستمرار بدلًا من حالة التردي الاقتصادي التي يعيشها الأردن الآن و سيكون لها من القدرة على حماية سكان الضفة والقطاع من الإساءة اليومية التي يتعرضون لها من قبل الاحتلال فإسرائيل اليوم لا تجرؤ أن تعتدي على الأردن، ومع ترسيم الحدود ستنتقل هذه الحصانة إلى الضفة والقطاع.
ويُهدد الفشل في تنفيذ مثل هذه الخطة، الفلسطينيين في الأراضي المحتلة والأردن نفسه بخطر حقيقي يسميه الكثير من الإسرائيليين همسًا بين بعضهم البعض بـ “الترانسفير” ( transfer) وهو التطهير العرقي. ومازال أكثر من سبعة ملايين فلسطيني يقيمون في فلسطين التاريخية بين النهر والبحر ويعيشون في منطقة رمادية من الحرمان السياسي دون أي أمل يلوح في الأفق. وهذا وضع يعلم الإسرائيليون أنه شرارة صراع أو اضطرابات مدنية واسعة يمكن أن تجلب ضغطًا عالميا مستعصيًا ضدهم. وسيرى الإسرائيليون بشكل متزايد مثل هذا التطهير العرقي الذي يمكن أن يجري تحت ستار حرب إقليمية –لنقل مع إيران- بوصفه الحل الوحيد لهذه المشكلة. وقتها يمكن لإسرائيل أن تطرد الفلسطينيين إلى الأردن ومصر في حرب إبادة وخلال تلك العملية تدمر الدولة الأردنية كما نعرفها اليوم. وأولئك الذين يستبعدون مثل هذا السيناريو بوصفه مستحيلاً لم يكونوا يولون اهتمامًا كافيًا للخطاب السياسي في إسرائيل منذ تأسيسها.